اللاجئون الصوماليون بعدن.. التنقيب عن حياة في غياهب المهجر
كتبت/ هلا عدنان
تحت شمس حارقة لا ترحم، يقف في مخيم خرز عشرات اللاجئين (الأفارقة) الفارين من بلدانهم المضطربة، غير آبهين لحرارتها، يتوزعون في أنحائه، وكل وجه منهم يحمل قصةً مؤلمة..
تجتمع النساء اللواتي يرتدين الملابس القطنية الواسعة والملونة والرجال حول بعضهم، يتبادلون أحاديثهم بلغة غير مفهومة، وتقاطعها أصوات الأطفال ضحكاتهم وصياحهم المليئة بالحماسة، وعلى مسافة قريبة نساء تنقل المياه في قنان زيت صفراء تملأها من صنبور عام، فيما تنهمك أخريات بغسل أطفالهن في حمام يتشاركون فيه عشرات الأسر.
الملاذ الوحيد
يمتد مخيم خرز في محافظة لحج على مساحة شاسعة، ويتكون من غرفة أسمنتية صغيرة توفر المأوى والحماية النسبية للاجئين، ملتفة بخيام عشوائية متعددة الألوان وأخرى مصنوعة من زنك وقطع خشبية، تتوزع على نحو متقارب مما يفقدها الخصوصية والراحة.
يتسنى للمار أن يرى جانب المعاناة التي تُلقي بظلالها على سكان المخيم الذي يتعرض للكثير من التحديات الأمنية والصحية، وتتزايد فيه المخاوف من تفشي الأمراض، بسبب الفقر والحاجة والظروف المناخية الصعبة، وأن يلمس التعب على النساء، فهن يمارسن حياة مترفة بالعناء.
هذا المخيم، الذي تتولى المفوضية تسييره، يُعد الملاذ الوحيد للكثير من الأسر والأفراد، فيه يحصلون على الغذاء والدعم الأساسي للاحتياجات المنزلية، والمياه الصالحة للشرب، والمأوى، والتعليم، والرعاية الصحية.
قصة خضراء
ما أن تظهر اشعاعات الفجر الأولى إلا وتستيقظ خضراء لتشعل أعواد الحطب، تحضر فطور أطفالها قبل توجهها للعمل التي تحرص جيدا على الالتزام به، تنجز احتياجات منزلها في عجل، مستعدة لبدء يومها العملي.
في هذه الساعات الباكرة، يستيقظ الجميع في منطقتها، حيث يبدأ اليوم مبكرا، وينتهي عند غروب الشمس.
خضراء حسن عبدي البالغة من العمر (34) عاما واحدة من هؤلاء اللاجئين، القاطنين في المخيم، جابهت الكثير من التحديات وحيدة إلى أن وصلت إلى مستوى معيشي ترضى عنه، ويميزها عن مواطنيها في تلك البقعة، فهي الآن تعمل في منظمة كمترجمة فالعمل يعني لها الكثير في حياتها، حيث فكرة توقف عمل المنظمة التي تعمل بها تشكل قلقا وكابوسا دائما لها.
كان المخيم آخر محطة لاستقرارها مع زوجها وطفليها، تحاول أن تتأقلم مع وضعها وتهتم بأسرتها الصغيرة وبمنزلها الذي يبدو عليه الاهتمام بالنظافة، رغم بساطته وخلوه من الأثات سوى دولاب حديدي.
بداية الرحلة
في ليلة لم يكن مخططا لها عام 2009، قررت خضراء الهروب والهجرة من حرب الصومال وضيق الأوضاع هناك إلى اليمن، لتبحث عن فرصة لتحسين حياتها، لكن الرحلة لم تكن سهلة على الإطلاق..!
بدأت خضراء تروي قصتها، وهي تتذكر شيئا من الماضي، تتكلم تارة، وتقف تارة أخرى، وترفع بعينيها لسقف الغرفة، اقتربت منها لأحاول سماع صوتها وفهم كلماتها المتقطعة “أول ما أكملت دراستي الثانوية بدأت أفكر بمستقبلي ودراستي فكان حلمي أن أكمل التعليم الجامعي، لكنني صدمت من قرار أهلي”.
تفصح عن قصتها لأول مرة، “لا أحد يعرف بقصتي غيرك حتى أمي لم أكلمها”، وتسترسل “أتذكر يومها عندما فاتحت أبي قالها لي بكل صراحة (ما عندي إمكانية).. زعلت كثيرا من موقفه لكنني قدرته، كنا نمر بظروف معيشية صعبة معهم أنا وإخوتي الستة”.
تغيرت ملامح خضراء، وصدر عنها صوت تنهيدة معبرة عن ندمها، لتتابع بصوت خافت “في يوم جاءت صديقتي، وعرضت فكرة اللجوء عليَّ، وقالت أنت دبري مبلغا ماليا، وأنا عليَّ بقية الأمور والإجراءات، كنت طائشة عندما قبلت، وخططنا للهروب دون معرفة أهلي”، حاولت أن تسوّغ لنفسها هربها من أهلها، ومن موطنها “كنت أطمح لأن أعيش أفضل، وأبحث عن فرصة عمل لأن هناك لا تواجد فرص للعمل”.
بعد أن أخبأت دمعاتها التي تخفي وراءها ألم دفين يعتصر قلبها، تتماسك نفسها لتروي الموقف الذي علمت فيه والدتها بخبر هجرتها “خرجت من أمامها، وهي تبكي”، تتوقف عن الحديث، وتقلب كيسا، وتخرج منه كرتون دواء تفتحه، وتشرب واحدة، “هذا علاج السكر، جاءني هذا المرض من الضغوط التي مررت فيها”.
الطريق إلى المجهول
تحرك خضراء يدها بإشارات تعبر عن توترها، تقفل أصابعها، وتعاود فتحها لتبدأ بسرد مغامرتها بالهجرة غير الشرعية “بدأت رحلتي إلى جيبوتي كان حينها وقت العصرية وصلنا في صباح اليوم الثاني، مسكونا وسجنا، كنت لا أملك أي وثائق.. حاولت إقناعهم أنني جئت أزور أقربائي”.
وهي تتحدث تتساقط قطرات دمع على خديها لم تعد تسطيع أن تخفيها، وتدير رأسها، وتتابع بصوت مخنوق “دارت الدنيا بي كنت صغيرة جدا بدأت بالندم من تلك اللحظة، كنت فقط أبكي أتذكر أمي وقت خروجي وخائفة من أبي الذي لو عدت إليه لا أعلم ما سيعمل بي”.
تعدل خضراء جلستها، وتقول “عندما سمحوا لنا بالدخول مشينا قرابة 20 ساعة أنا ومجموعة من النساء اللواتي لهن نفس الهدف، وأتذكر كانت معنا واحدة ماتت بالطريق من التعب قالوا إنها تعرضت لأزمة قلبية”.
خلال الطريق كانت خضراء ترافق 7 فتيات والكثير من الأولاد، منهم من يمتهن التهريب كعمل، “كان الطريق ظلاما كنا أوقات نجري وأوقات نمشي، حينها مسك بي واحد من كان يرافقنا، وحاول الاعتداء عليَّ، وحاولت الفرار منه بعد أن سقط في حفرة، ولحقت بالمجموعة”، على حد قولها.
الوصول الى مشارف اليمن
وصلت خضراء إلى مشارف اليمن ولكن لم يكن بحوزتها أي شيء غير أنها مصابة بصدمات نفسية ومواقف أليمة حفرت في الذاكرة جراء ما تعرضت له، “وصلنا في الصباح إلى منطقة تسمى (أوبخ) انتظرنا يوم كامل تحت شجرة ننتظر قاربا ينقلنا، وركبنا القارب ونحن متزاحمين رجالا ونساء، يوم كامل كانت الرحلة عبر البحر مخيفة جدا ظلام وبحر وأعدادنا كبيرة”.
خذلان المهجر
كان أمل خضراء عند وصولها كبيرا عبرت عنه بابتسامة عريضة، وكأنها استعادت أحاسيسها في ذلك الوقت “أخيرا وصلنا منطقة ميفعة، كان هناك منظمة أعطتنا أساسيات من أكل وملبس”.
تعيد لف حجابها الذي لا يفارقها حتى داخل غرفتها، وهي منهمكة في الحديث عندما علمت بأن ثمة مدينة اسمها عدن تتوفر فيها فرص عمل، وبعد توجهها لها دون انتظار، صدمت فالواقع عكس ما قيل لها “اشتغلت أنظف بيوت كثيرة بكريتر، وسكنت عند امرأة كبيرة بالسن من قريتنا، ولكنني لم استرح بالعمل، ووجدت مضايقات من بعض الفتيات في المنزل نفسه”.
تطرطق أصابعها وتغرورق عيناها بالدموع مجددا “عدت للمخيم كنت كل يوم أبكي، وأنا أعاني وحدي نادمة على قرار الهجرة، ولكن لا أستطيع العودة، كنت أتنقل بين المخيم وكريتر”، وتمسح عيناها، وترشف ما تبقى من كوب الماء الذي كان بجانبها، وتتابع حديثها “اضطررت للزواج هربا من الظروف، وعملت لفترة في مدرسة ب 15 ألف، كانت تغطي الاحتياجات الأساسية في 2011”.
أسوأ السنوات
تنهار باكية بعد محاولات كثيرا لإخفاء دموعها، وهي تتحدث عن تعرضها لمضايقات من المحيطين وتوقفها عن العمل هي وزوجها ومرورهم بأسوأ الظروف مع طفليهم، “كل ما تتوقعينه حصل لنا خلال تلك السنوات.. كانت أسوء أربعة سنيين بحياتي”.
شاركتها بالحديث جارتها فاطمة إدريس التي تتبسم رغم كل ما يؤلمها، تتلمس بطنها المنتفخة التي تحمل جنينها في شهورها المتأخرة، وتشكو من سوء الحال الذي يعيشونه وعدم توفر فرص عمل، حتى المتعلمات منهن “نحن هنا في المخيم نشتي عمل لكن مافي”.
فرج بعد كرب
تبتسم وتتلعثم الكلمات في فم خضراء، وهي تحدثني كيف تحسنت ظروفها بعد توجهها إلى رجل يشغل منصب المدير في مركز بالمخيم، وشرحت له ظروفها الصعبة، وبفضل تعاونه، ولحسن حظها كان هناك احتياج تمكنت من العمل كمترجمة -للغة الصومالية-، ومنذ ذلك الحين، تحسنت ظروفها، واستقرت حالتها المادية، تقول “أنا ممتنة لله ولهذا الرجل الفاضل”.
كانت أحلام خضراء يافعة عند تفكيرها بالهجرة عن موطنها القاسي، شاخت تلك الأحلام في ضواحي بلاد المهجر، عدا حلم وحيد بات أهم مايشغلها، استطاعت الوصول إليه حين ألتقت بأسرتها بعد عقد ونيف من الفراق “من خلال عملي جمعت مبلغ وذهبت أنا وزوجي وأطفالي للصومال لكي استسمح من أهلي لأن منظر أمي وهي تبكي عند سفري يؤلمني جدا.. الحمدلله التقيت بهم ورضوا عني بعد أن أطمأنوا علي، وعدت بعد 20 يوم إلى المخيم”.
دعم المنظمات للاجئين
وحول قصة خضراء يعلق مدير مركز تسجيل اللاجئين في مخيم خرز التابع لمصلحة الهجرة والجوازات محمد عبد الرب، عن دور المنظمات بدعم اللاجئين بالمخيم، يقول “توفر المنظمات للاجئين بعض المواد الأساسية في الغداء مثل الطحين والزيت والسكر، وبعض الاحتياجات الاستهلاكية مثل المنظفات وحفائض ألأطفال، والمستلزمات المعيشية مثل الفرشان والإضاءات التي تعمل بالطاقة الشمسية”.
ويضيف “وهي إلى ذلك تساهم في دعم الجانب التعليمي من خلال إنشاء المدارس ودفع مرتبات العاملين فيها، وتوفير الأغراض الدراسية مثل الملابس والحقائب والمستلزمات المدرسية”.
ويؤكد عبد الرب على اهتمام المنظمات في دعم الجانب الصحي من خلال “إنشاء مركز صحي وتوفير العلاجات الضرورية ودفع مرتبات العاملين فيها، بالإضافة إلى توزيع مساعدات مالية للحالات الخاصة والفئات التي تحتاج لحماية مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال غير المصحوبين وغيرها من الحالات الخاصة المتعارف عليها، مع توفير أطباء نفسيين للأشخاص الذين يحتاجون هذا النوع من الخدمات”.
ويلفت إلى أن “المنظمات في المخيم توفر محامين للاجئين المسجونين بقضايا جنائية وأيضا متابعة شؤون اللاجئين في المرافق الحكومية، وغيرها من المهام اللوجستية التي تخدم اللاجئين بشكل عام”.
أما بالنسبة لدور مركز التسجيل التابع للهجرة والجوازات يوضح عبد الرب، بأنه “يقوم بإحصاء عدد اللاجئين وتسجيل بياناتهم الشخصية ومن ثم إصدار بطاقة لجوء ووثيقة خاصة باللاجئ تسمى POR حتى يتسنى للاجئ الاستفادة من الخدمات السابقة حيث أنه لا يستطيع أي لاجئ الاستفادة من أي خدمة سابقة دون قيامه بعملية التسجيل”.
ويتابع “هناك فوائد أخرى عدّة للاجئ من عملية التسجيل واستخراج بطاقة مثل حرية التنقل في أرجاء البلاد بشكل قانوني، وتسهيل المعاملات المالية والخدمية في البلاد مثل استلام الحوالات أو الحصول على فرص عمل مع الحفاظ على كامل حقوقه دون ابتزاز، ويعامل معاملة المواطن عموما ماعدا بعض الأمور المتعلقة بقانون الدولة مثل الوظائف الحكومية والعمل في السلك العسكري والأمني”.
الدعم والإرشاد النفسي والأسري
إيمان البريهي، الأخصائية النفسية، تشير إلى أن اللاجئين يفرون من رعب الحرب إلى واقع أسوأ عبر الهجرة غير الشرعية، يتعرضون لمواقف قد تهدد حياتهم وتسبب لهم صدمة نفسية، وهذا ما حدث لخضراء بعد وصولها إلى الأرض المرجوة، حيث واجهت واقعًا صعبًا وظروفًا اقتصادية سيئة، وعدم توفر مأوى آمن للإقامة، ومشاكل الجوع والعطش، وربما المضايقات أيضًا.
وتؤكد البريهي، أن “جميع هذه الأمور تسببت في ضغوط نفسية شديدة بالنسبة لها، ولكي تتخلص من هذه الضغوطات، تحتاج إلى جلسات نفسية مكثفة، بالإضافة إلى الدعم والإرشاد النفسي والأسري، وتكاتف المجتمع لمساعدة خضراء على استعادة استقرارها النفسي”.
تحديات إنسانية
من جانبه، أعرب أستاذ علم الاجتماع بجامعة عدن الدكتور فضل الربيعي، عن قلقه إزاء الوضع الناتج عن زيادة حركة تدفق الهجرة المختلطة من القرن الأفريقي إلى اليمن وما تخلف من ظواهر سلبية تشمل حياة هؤلاء المهاجرين أو المجتمع المضيف، حيث أنهم يواجهون صعوبات كبيرة كحالة خضراء وغيرها من اللاجئين أو المواطنين في اليمن، وحث على ضرورة تعزيز الدعم الدولي لمساعدتهم.
وأشار الدكتور الربيعي إلى أن الهجرة القسرية للأفارقة غالبا ما تنجم عن الضغوط النفسية التي يعانيها الأفراد، وأحيانا تكون نتيجة للظروف القاسية التي يواجهونها في بلدانهم، بالإضافة إلى تأثير العصابات والتنظيمات الاجتماعية التي تشجع على الهجرة غير الشرعية أو تهرب المهاجرين.
وفي ضوء عدم كفاية الدعم الدولي المقدم من المانحين وغياب التزامات الجهات المعنية، يواجه اللاجئون العديد من التحديات الاجتماعية والإنسانية في اليمن، وتتضمن هذه التحديات ظروفا صحية متردية ونقصا في الإمكانيات الأساسية.
وشدد الدكتور الربيعي على ضرورة تعزيز التنسيق بين المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والسلطات الرسمية، لاسيما في المحافظات التي تعاني من هذه الظاهرة محافظة عدن مثلا، لتوفير الاحتياجات الأساسية للاجئين وتخفيف معاناتهم، مشيرا إلى أهمية دراسة هذه الظاهرة من قبل المنظمات والمانحين وبحث مسألة عودة النازحين إلى مواطنهم الأصلية ومساعدتهم على التكيف والاستقرار فيها.
احصائيات الهجرة الدولية
وكشف تقرير الهجرة الدولية عن ارتفاع عدد المهاجرين الأفارقة إلى اليمن خلال العام المنصرم 2023، حيث وصل أكثر من 97 ألف مهاجر أفريقي إلى اليمن خلال العام نفسه.
ورصدت مصفوفة النزوح (DTM) التابعة للمنظمة، وصول 97,210 مهاجرا أفريقيا إلى اليمن من 1 يناير حتى 31 ديسمبر من العام الماضي، وشهد الشهر الأخير من العام ارتفاعا في عدد المهاجرين الأفارقة الوافدين إلى اليمن معظمهم دخلوا عبر سواحل محافظة شبوة، حيث بلغ عددهم 1,679 مهاجرا، بزيادة بنسبة 13% عن شهر نوفمبر الماضي.