مقالات

ما أجمل العيد في زمن أمي وأبي رحمة الله عليهما

 

 

بقلم: د. قاسم المحبشي

 

في الماض، قبل وسائل التواصل الاجتماعي. كانت الأفراح والأتراح صغيرة وجميلة وبسيطة ومقتصرة على أهلها في مكانها وزمانها المحددين ولا أحد يعلم ماذا يحدث في العالم الأوسع فيما وراء الوادي؟ أما اليوم بعد انكماش الزمان والمكان وانكشاف العالم وتكشفه للرؤية من كل الجهات على مدار ساعات الليل والنهار؛ أقول في هذا الفضاء الافتراضي المتزايد الاتساع والآفاق بما ينهمر به من أخبار وحوادث وإحداث مأساوية من فلسطين الحبيبة وجريمة إسرائيل الكبرى التي ارتكبتها في تدمير غزة الباسلة على رؤس أهلها لم يعد بمقدور الناس الاستمتاع في اعيادهم وافراحهم الخاصة بسلاسة وتلقائية أذ تجدهم يتفاعلون وينفعلون بما يشاهدون ويسمعون من إخبار العالم حولهم وكما يقول المثل العربي الخير يخص والشر يعم ! بمعنى إن الجرائم التي ترتكب ضد أناسا مثلنا بل واخوتنا لنا أمام أبصارنا وأسماعنا دون أن يكون بمقدرونا عمل إي شيء من أجلهم فمن المؤكد أنها تؤثر في كل صاحب ضمير وحس سليم إذ ليس بمقدور المرء أن يكونا خنزيرا حتى يدير ظهره لآلام الآخرين ! ربما لأول مرة في حياتي يأتي العيد وأنا بعيد عن أهلي وناس في شمال الأطلسي. هنا في منتجع سياحي وسط ضيعة هولندية وارفة الظلال. وانا أفكر اين اقضي العيد وكيف اقضيه هنا ؟ عادت بي الذاكرة إلى زمن مضى؛ تذكرت أيام الطفولة حيث كان للعيد معنى وقيمة ودلالة الفرح والبشارة إذ تذكرت الأغنية التي ترددها أمي وهي تقوم بطهي وجبة والعشاء الأخير ليلية العيد :

 

يا ليلة العيد عودي ياخيار الليال

عودي ع الشاب والشيبه وفرخ الحمام

العيد عيد العوافي والفرح والقُبال

يا رب تعيده علينا كل عام وعام

وأنشودة أخرى كانت تترنم بها أمي الحبيبة رحمك الله تغشاه صباح عيد الاضحى وهي تعد الإفطار تقول فيها:

يا ليتني طير والخالق يسي لي جناح

أزور سيدي محمد بالعشي والصباح

من يركب البحر يشرع مركبه للرياح

يا الله بنسمة بريدة باللجج والفساح

كانت ترردها بصوت شجي ومنغم في صباح كل عيد اضحى جديد والحمد تحقق حلمه بعد أن كبرنا. كنا ننصت اليها بخشوع ممزوج بالفرح والأمل والبشارة. كان أبي رحمة الله عليه يحرص حصرًا شديدًا على شراء ملابس جديدة لكل منا في كل عيد ويردد التميمية التقليدية ( جديد جديد يلعن أبو كل بالي) وهو يرتدي معوزه الحضرمي الجديد وكنا نردد بعده مثل الببغاوات! ولم نكن نعرف المعنى إذ كنا في ليلية العيد نعمل بروف الاحتفاء بالزي بعد أن تكتمل الخيارات في تناسق الألوان والمقاسات. المعوز والصندل والشميز والكشيدة مع ملابس داخلية جديدة. كان كل واحد مننا يضع حلته الجديدة مع الطماش في كيس على مقربة منه. وفي الفجر أول ما يصحى أبي مردد تعويذة الصباح: بصوت مرتفع وهي إشارة للنهوض إذ يقول: يا الله اليوم يا فتاح يا رزاق يا كريم.. انهضوا عيد لا نوم يوم العيد! ثم يصحبنا إلى المسجد لاداء صلاة الفجر والعودة إلى المنزل بعد أن تكون الوالدة يعطيها الصحة والعافية قد أعدت القهوة والتمر والشاي والإفطار نتشرف القوة مع التمر على عجل بعد تكبيرة العيد الجماعية بعد الصلاة في المسجد بسرعة وبالنا مشغول في الملابس الجديدة. فمن كان صغيرًا منا تجهزه الوالدة ومن هو قادر على تدبير حاله يلبس بنفسه ستسمر حالة الاستنفار الاحتفالي بالزي والإفطار لمدة نصف ساعة تقريبا. طبعا العواد والمعاودة لا تتم إلا بعد صلاة العيد مع بزوغ الشمس. كنا نذهب للصلاة بفرح غامر كل بملابسه الجديدة. لا احد يعير اهتمامه بطقوس الصلاة وخطبة العيد في لحظة الأفعال هذه. كان الجميع يستجعل الخطيب لإنهاء خطبته حتى تنطلق عملية المعاودة الذكورية بين المصليين ثم نعود إلى منازلنا وقد اجتمع فيها كل نساء العائلة في صف مرتب تتقدمهن الأكبر سنًا ونقوم بمعاودة الجميع وندعو لك شخص بالدعاء الذي يحبه. الشباب بالتعليم والنجاح والزواج والمتزوجين بالجبر والغلام والكبار بزيارة بيت الله الحرام وغير ذلك من الدعاوى المحببة وبعضها تقال جهرًا وبعضها سرا. ثم تبدأ هداياء المفاجأت واتذكر أن أبي رحمة الله عليه كان كل عيد اضحى يهدي لنا نوع جديد من الحلويات

منها خلايات نحل العسل العلب والهريسة اللحجة والمضروب وفي أحد الأعياد إهداء لنا

مربى الزنجبيل لا الذ منه ولا اشهى مازلت اتذكر طعمه بعد أربيعين عام. ثلاث علب زجاجية يحتوى على أصابع الزنجبيل الأخضر المدبس بالعسل. بحثت عنه في كل مكان لم اعثر عليه بعدها أبدا. رحمك الله تغشاكما أبي وأمي الحبيبين فلم يعد للعيد طعم الفرح بعد رحيلكما. وعيد اضحى مبارك وكل عام وأنتم بخير وسلام اصدقائي الاعزاء صديقاتي العزيزات

 

تحرير المقال
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار