قراءة في الأزمة القائمة بين الرئيس وأجهزة الإستخبارات الأمريكية(تقرير)
تقرير - محمد مرشد عقابي

رغم ان العلاقة بين صناع القرار وأجهزة الإستخبارات في الولايات المتحدة معقدة إلا أن العلاقة بين هذه الأجهزة والرئيس الأميركي دونالد ترامب حالياً بحسب مراقبين تعكس أزمة عميقة بين الجانبين، وبحسب دراسة سعت إلى تحليل هذه الأزمة صدرت عن “معهد أبحاث الأمن القومي الأسرائيلي” فإن جزءً من انتقادات ترامب مبررة وتعكس مشاكل أساسية تعاني منها الإستخبارات الأميركية، إلا أنه في أساس الأزمة يوجد مفهوم مقلق لدى ترامب إزاء دور أجهزة الإستخبارات في استيضاح الواقع خلال عملية اتخاذ القرارات ومكانة الجهات المهنية التي تعمل في هذا المجال، ورغم اختلاف العلاقات بين الإستخبارات وصناع القرار في إسرائيل عن تلك التي في الولايات المتحدة إلا أن الحالة الأميركية تضع إشارات تحذير أمام أجهزة الإستخبارات الصهيونية أيضاً.
ولفتت الدراسة إلى أن سعي ترامب لتعيين سياسيين مثل مندوب ولاية تكساس في مجلس النواب جون راتكليف لمنصب مدير الإستخبارات الوطنية (DNI) يعكس أزمة عميقة في العلاقة بين أجهزة الإستخبارات ومؤسسة الرئاسة المستمرة منذ بداية ولايته، فقد وصف ترامب أداء الإستخبارات الأميركية بعد التحقيقات في التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة السابقة بأنه مثل ألمانيا النازية، وأقال الرئيس دونالد ترامب رئيس مكتب المباحث الفدرالية (FBI) جيمس كومي في أيار “مايو” العام 2017م وبعد سنة ادعى ترامب أن أجهزة الإستخبارات تراقبه بشكل غير قانوني وفي آب “أغسطس” 2018م ألغى ترامب التصنيف الأمني لرئيس وكالة الإستخبارات المركزية (CIA) جون برنين بعد أن انتقده الأخير ونشر الرئيس الأمريكي تغريدة في تويتر بعد استعراض التهديدات السنوية في الكونغرس وصف فيها أفراد أجهزة الإستخبارات بأنهم “ساذجون وجامدون” ودعاهم إلى العودة إلى المدرسة وفي تموز “يوليو” الماضي أقال ترامب مدير الإستخبارات الوطنية دان كونس من منصبه، مشيرة إلى أن أداء ترامب في هذا السياق هو جزء من صراع أوسع يخوضه وقادة حاليين آخرين في أنحاء العالم ضد أجهزة اعتبرت طوال سنين أنها مسؤولة عن استيضاح الواقع وفهمه بواسطة تحليل مهني يستند إلى حقائق من بينها جهاز القضاء وإنفاذ القانون الأكاديمي وفي بعض الحالات وسائل الإعلام أ
يضاً، ويرى الرئيس ترامب ومؤيديه بان هذه الأجهزة تسيطر عليها الدولة العميقة أي “حكم الظلال” لنخب تفرض مواقفها وقيمها على المستوى السياسي.
ويشار إلى أن عدداً من قادة أجهزة الإستخبارات السابقين وخاصة من فترة ولاية باراك أوباما تحولوا إلى أكثر المنتقدين لسياسة الرئيس الأمريكي ترامب في العامين الأخيرين وتشمل هذه الإنتقادات شخصية ترامب وقدراته وسياسته وأهليته لتولي منصب الرئيس ويصفونه بأنه يفتقر لمعرفة قضايا الأمن القومي ولا يهتم بتوسيع مداركه ويتجاهل بشكل منهجي معلومات تتناقض مع أهدافه وسياسته ويدأب على نفي ونقض تقييمات وحقائق لا تتجانس مع الرواية التي يطلع إلى دفعها قدماً ويعتمد على مصادر معلومات منحازة وخاطئة ويعمل بتسرع وبشكل يضع مصادر حساسة في خطر ويمنع نقل معلومات إلى الكونغرس وبحسب تقارير فإنه يوجه رصد موارد وعمليات إستخبارية وفقاً لأجندات سياسية، ورفض الرئيس دونالد ترامب تقييمات اجهزة الإستخبارات في عدة حالات بحسب ما جاء في هذه الدراسة منها رفضه تقييمات الإستخبارات حيال مستقبل البرنامج النووي لكوريا الشمالية ومدى إلتزام الأخيرة بالتفاهمات مع الولايات المتحدة وكذلك عدم جديته في فرض عقوبات رادعه وواضحه على البرنامج النووي الإيراني، كما هاجم ترامب أجهزة الإستخبارات بعد استعراضها تقرير التهديدات السنوي أمام الكونغرس بداية العام الماضي وجاء فيها أن إيران لا تخرق الإتفاق النووي الذي كان ترامب انسحب منه، كما انتقد أساليب عمل أجهزة الإستخبارات “القديمة” وفشلها في منع هجمات تنظيم القاعدة في 11 أيلول “سبتمبر” العام 2001م وتقييماتها الخاطئة بشأن وجود أسلحة غير تقليدية بحوزة العراق في العام 2003م وفي بداية ولايته أعلن ترامب أنه ليس بحاجة إلى إحاطة الإستخبارات اليومية له والتي تعتبر أحد أعمدة العلاقة بينها وبين من يشغل منصب الرئاسة، كما هاجم ترامب هذه الأجهزة في عدة مناسبات ووصفها بأنها مسيسة وأنها لا تعمل بموجب القواعد المتبعة واتهمها بالعمل غير القانوني بهدف التشهير والإساءة لشخصه.
وقالت الدراسة إن تحليل الخلافات يظهر أن قسماً من انتقادات ترامب مبررة وتتطرق إلى مشاكل أساسية معروفة وموجودة بالفعل لدى أجهزة الإستخبارات الأميركية وغير أميركية وبينها فجوات منهجية وتنظيمية تسبب إخفاقات بالتقديرات وكذلك إجراءات عمل قديمة ولا تتلاءم مع التغييرات الحاصلة في عالم المعلومات، كما أن ترامب يشخص بشكل صحيح قيود الإتجاه الإستخباري القديم ومشاكله والتي تميز أجزاء من أجهزة الإستخبارات الأميركية وتنعكس من خلال ادعاءات منتقديه وهذا الإتجاه بصيغته المتطرفة ينظر إلى أفراد هذه الأجهزة كمربين لصناع القرار ويطلبون لأنفسهم احتكار استيضاح الواقع بشأن العدو والمحيط، وتدل عدة كتب صدرت مؤخراً من تأليف مسؤولين كبار سابقين في الإستخبارات أن لهذا الإتجاه وجود قوي في أجهزة الإستخبارات الأميركية وأعداد كبار المسؤولين في الاستخبارات الذين استقالوا وتمت إقالتهم يدل أيضاً على الصدامات والخلافات بين ترامب وكبار مسؤولي المؤسسة السياسية والأمنية، مؤكدة بأن هذه الخلافات بين ترامب وأجهزة الإستخبارات ليست أمراً نادراً في الدول الديمقراطية الغربية وأن الكثير من قادة هذه الدول انتقدوا أجهزة الإستخبارات على خلفية إخفاقات في توفير تقييمات أو عدم الإتفاق حولها، ورغم ذلك أدرك معظم قادة تلك الدول ضرورة استيضاح أجهزة الإستخبارات للواقع بشكل مهني والإعتماد على الحقائق قبل أي شيء آخر، كما نوهت الدراسة إلى أنه في أساس الأزمة بين ترامب وأجهزة الإستخبارات ثمة شيء أعمق ومتعلق بأسلوب ترامب أكثر من أن ذلك بمفهومه الأساسي مهمة أجهزة استيضاح الواقع في عملية صناعة القرار وفي السياق الإستخباري فان ترامب يقوض عملياً بشكل علني وصارخ أساسين مركزيين للعمل الإستخباري : التشديد على الخبرة المهنية محاولة واستخدام أساليب عمل منهجية غايتها تقليص أخطاء وضمان تحليل محايد بقدر الإمكان للواقع ومركزية المعطيات والمعلومات – الحقائق – في العملية الإستخبارية وفي حالات كثيرة ادعاءات ترامب ليست جزءً من نقاش شرعي حول مضمون التقييم الإستخباري الإستراتيجي وإنما نفي شامل لمجرد شرعيتها والضالعين في بلورتها.
وقالت الدراسة إن الأزمة بين ترامب وأجهزة الإستخبارات الأميركية تعكس صداماً قوياً بين وجهتي نظر مختلفتين حيال الواقع : الأولى ترى به أمراً حقيقياً ينبغي استيضاحه وفهمه، والثانية ترى به ساحة ألعاب لتأثير القوة، وثمة مكان لهذين المنظورين طبعاً لكن الخلط بينهما يصعب القدرة من خلاله على استيضاح الواقع وفهمه، وهذا الصدام ليس جديداً بحسب العديد من المصادر لكن ما تم فعله في الماضي في الغرف الخلفية أو بعد خروج أفراد الإستخبارات من الغرفة يتم فعله لدى ترامب بشكل مكشوف بالكامل، مضيفه بانه يصعب تحليل تبعات الأزمة على الأداء الفعلي لأجهزة الإستخبارات ونوعية عملية صناعة القرار في شؤون الأمن القومي وما تم نشره بهذا الصدد منحاز جداً إثر التقاطب السياسي وثمة شك إذا كانت المرحلة الراهنة توفر وجهة نظر لائقة للبحث في هذه المسألة، ويبدو أن عدم استعداد ترامب لتقبل الحقائق كما هي هو أحد الأسباب التي تجعله يمتنع عن العمل ضد تهديدات معينة موجودة وآخذة بالتبلور وفي حالات أخرى عدم رغبته بعمل يقوده إلى الكفر بحقائق وتحليل مهني يستند إليها، وفي جميع الأحوال يظل خصوم الولايات المتحدة مثل إيران وروسيا يسعون إلى استغلال تراجع الثقة بأجهزة الإستخبارات بهدف دب الشك لدى الجمهور لخلق فجوة عميقة يستطيعون من خلالها الولوج وزرع القلاقل في دائرة صنع القرار الأمريكي.