مؤثرات الكساد والإنهيار الإقتصادي في رسم وتشكيل خارطة العالم الجديد
تقرير - محمد مرشد عقابي

يؤكد عدد من الخبراء والمهتمين بالمجال الإقتصادي بانه وقبل تسعين عاماً من الآن أي في تشرين الأول “اكتوبر” 1929م على وجه التحديد نشبت أزمة اقتصادية عالمية كانت بدايتها موجة من الذعر في بورصة نيويورك وما إن أشرف ذلك العام على نهايته حتى تجاوزت الأزمة حدود بورصة نيويورك فأدت إلى إفلاس عدد كبير من المنشآت الصغيرة والكبيرة وتوقفها عن العمل وتسريح مئات الآلاف من العاملين فيها، وبحلول العام 1930م كانت الأزمة قد عمت أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية وتحولت إلى أزمة عالمية، واستمر تدهور الإنتاج في كل مكان حتى عام 1933م وهبط الدخل القومي في أميركا من 87.8 مليار دولار في عام 1929م إلى 40.2 مليار دولار في عام 1933م وانهار ما يربو على 135 ألفاً من الشركات التجارية والصناعية والمالية وخلال ثلاث سنوات من الأزمة أفلس نصف المصارف الأميركية تقريباً بعد ذلك توقف التدهور وبدأت مرحلة الركود فبذلت سلطات العديد من البلدان جهوداً جبارة لإنتشال الإقتصاد من حالة الإنكماش التي وصل إليها وفي هذا المجال اشتهرت على نطاق واسع أفكار الإقتصادي الإنكليزي المخضرم “جون كينز” الذي دعا إلى تدخل الدولة في الحياة الإقتصادية بقوة، وعزا كينز سبب الأزمة إلى الإختلال الناجم عن ارتفاع مستوى انتاج السلع والخدمات من جهة وانخفاض مستوى الطلب القادر على الدفع من جهة أخرى.
واقترح الخبير الأنكليزي بان يكون تعويض المستوى المنخفض لطلب السكان القادرين على الدفع بالطلب من طرف الدولة داعياً الى ضرورة اللجوء إلى ميزانية الدولة لشراء السلع وتوزيع الطلبيات حيث كانت طلبيات الدولة ونفقاتها العسكرية صالحة للتعويض عن نقص الطلب القادر على الدفع ومن أجل زيادة نفقات الدولة، كما طرح الإقتصادي الإنكليزي القبول بالعجز في ميزانيتها على أن يغطى هذ العجز بواسطة الأقتراض الحكومي وزيادة الدين السيادي.
وكانت سلطات الولايات المتحدة الأميركية الجهة الأكثر مثابرة في تبني أفكار المخضرم “كينز” وذلك بعد أن تبوأ فرانكلين روزفلت منصب الرئاسة الأميركية في العام 1933م حين أعلن روزفلت عن “الصفقة الجديدة” (New Deal) التي خففت من وطأة الوضع الأجتماعي والإقتصادي في الولايات المتحدة إذ مولت الدولة برنامج الأشغال العامة مثل شق الطرق وأعمال الإستصلاح وحفر الأقنية والتشجير، أي ما لم يكن يتطلب كفاءات خاصة ووفر هذا البرنامج العمل وأيضاً الحد الأدنى من موارد العيش لملايين الأميركيين البسطاء ولكنه لم ينجح في انتشال أميركا من الركود ولم يتسن التغلب نهائياً على الفقر المدقع، وبحسب تقديرات مختلفة مات في سنوات الأزمة والكساد الإقتصادي من 5 إلى 6 ملايين شخص في الولايات المتحدة الأميركية وحدها وفي أوروبا استمر الركود وما رافقه من عوز وحرمان إبان تلك الأزمة، وكان الاتحاد السوفياتي وألمانيا الإستثناء الوحيد إذ شهد الاتحاد السوفياتي في ثلاثينيات القرن المنصرم تطورا ديناميكياً من خلال التصنيع وقدم مثالاً للعالم كله على أفضليات النموذج الإشتراكي في الإقتصاد، أما ألمانيا التي عانت في بداية الأمر من الركود مثل بقية أوروبا فقد أخذت هي الأخرى تتطور بسرعة بعد وصول “أدولف هتلر” إلى السلطة عام 1933م وشهدت ما عرف بالمعجزة الإقتصادية ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن المصرفيين الأميركي والإنكليزي كانوا آنذاك يغذون ألمانيا بالأموال.
ويؤكد الخبراء بان خطط ونظريات المخضرم “كينز” لم تصنع المعجزات بل عملت ما هو افظع من ذلك بالنسبة للغرب حينذاك خاصة بالمقارنة مع النمو الإقتصادي في الاتحاد السوفياتي خشية أن تؤدي تلك الفروق الواضحة إلى انتصار الإشتراكية النهائي في العالم، وعشية تلك الحرب (الثانية) كانت الولايات المتحدة أكبر مدين دولي في العالم وبنهاية تلك الحرب صارت المقرض الأكبر وتحول الدولار إلى عملة عالمية إلى جانب الجنيه الأسترليني، وكانت الأوساط الحاكمة في الغرب تميل أكثر فأكثر إلى فكرة أن الحرب قد تكون المخرج الوحيد من الركود الإقتصادي المزمن ولكن ليس أية حرب بل حرباً كبيرة على صعيد العالم بأسره.
وأدركت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى أن النزاعات العالمية المسلحة يمكن أن تغير الوضع الإقتصادي جذرياً حيث شرعت كل من الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وغيرها من أبرز البلدان الرأسمالية بالاستعداد والتحضير للحرب العالمية الثانية، وكان ثمة اعتقاد بأن الحرب ستشطب كل الديون وستختفي معها الإختلالات في الإقتصاد وسيبدأ تطور عاصف مع تصفير ميزانيات الإقتصادات الوطنية للبلدان المعنية وكانت البلدان المدينة تحلم بالإنتصار على دائنيها أو حتى بتدميرهم أما البلدان الدائنة فكانت تحلم بالأستحواذ على أسواق المدينين وثرواتهم الطبيعية والحصول على تعويضات من المهزومين تقدر بالمليارات، وجمدت البلدان المتحاربة قواعد اللعبة الإقتصادية في السوق المعتادة فصارت الدولة تعمل بيد من حديد على تعديل الإختلالات المتراكمة (المتطلبات والإلتزامات) بحجة ظروف الحرب، وكانت الحرب أقوى حجة للدولة لفرض نظام حديدي في الإقتصاد الرأسمالي عبر الأساليب الإدارية والإملائية وهذا ما ليس بمقدور أي نظرية كينزية وصارت الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في الأول من أيلول “سبتمبر” عام 1939م وسيلة لخروج الرأسمالية العالمية من الركود المديد وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر.
وقال الخبراء الإقتصاديون : بعد ذلك انتقلت الدول إلى القرن الحادي والعشرين حيث عاش العالم أزمة مالية واقتصادية شاملة ما بين العامين 2007م و 2009م هذه الأزمة لم تؤد إلى إزالة جميع الإختلالات المتراكمة في الإقتصاد، فبعد أن انتهت الفترة العصيبة الأولى في عام 2009م حل الركود الذي كان من المفترض أن يليه انتعاش حتى اتى العام 2020م ومع ذلك لا انتعاش حتى الآن.
واضافوا : في ثلاثينات القرن الماضي استمر الركود من العام 1933م حتى العام 1939م كان ذلك تعفناً مزمناً مضنياً قطعته الحرب العالمية الثانية أما الركود بعد أزمة 2007م – 2009م فمتواصل للعام الحادي عشر على التوالي ونحن هنا مرة أخرى أمام تعفن مضن.
وتابعوا بالقول : صحيح أن منافس الغرب الاتحاد السوفياتي لم يعد له وجود ولكن برزت الصين بوتائر نموها الإقتصادي غير المسبوق وقوة الصين الاقتصادية في العقود الثلاثة الأخيرة يمكن تسميتها من دون تردد بطور النهوض حيث لم يعرف أي بلد من بلدان الغرب في تاريخ الرأسمالية مثل هذه الأطوار الطويلة، وبات على الغرب أن يفعل شيئاً ومما لا شك فيه أن فكرة إشعال نار حرب كبيرة مرة أخرى قد خطرت أكثر من مرة في بال ممثلي الأوساط الغربية الحاكمة هذه الفكرة مغرية جداً ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على خطر الهلاك فالحربان الأولى والثانية انقضيتا دون استعمال السلاح النووي أما الحرب العالمية الثالثة اذا ما نشبت فستؤدي حتماً إلى استعمال أسلحة الدمار الشامل ولكن بدلاً عن حرب ساخنة يمكن أن تشن حرب باردة يفضل البعض تسميتها اليوم بالحرب الهجينة حرب تستعمل فيها الوسائط المالية (التجارية والإقتصادية والنفسية والإعلامية والأسلحة السيبرانية والأساليب الخاصة عند أجهزة الاستخبارات) ولكن ذلك كله لا يعطي السلطات صلاحيات تخولها للإنتقال من أساليب السوق في إدارة الإقتصاد إلى الأساليب الإدارية “الإملائية” وهذا يعني أن التغلب على الإختلالات الإقتصادية لن تدرك هذه المرة أيضاً.
ويرى الخبراء بان العالم سيشهد خلال فترة “الحرب الفيروسية” حالات إفلاس على نطاق واسع ستلغى ديون ومطالب بتريليونات الدولارات وستنهار “رسملة” الشركات وسيستعيد الإقتصاد “أنفاسه” من جديد وهنا ظهر فيروس كورونا كأداة لتنفيذ هذا الغرض.
وبدأت السلطات الغربية بتضخيم حالة الذعر جراء ذلك وخلق جو من الرعب في المجتمع وباستغلالها حالة الرعب تمسك السلطات بصلاحيات غير محدودة وتبدأ بالتدخل في الإقتصاد، هذه الأساليب تناقض مبادئ الرأسمالية “الحضارية” (كما يصفونها) ولكن التسيير الإداري الإملائي لن يدوم إلى الأبد فما أن تصحح اختلالات الإقتصاد حتى تعود ثانية أساليب السوق في الإدارة والتسيير وتبعث من جديد تلك الرأسمالية المسماة بالحضارية ويبدأ الإنتعاش الذي يتحول إلى نمو اقتصادي.
ويفترض الخبراء ذاتهم أن نظام حالة الطوارئ الإقتصادية سيمتد حتى نهاية العام 2020م على أقصى حد حتى أواسط السنة القادمة (2021م)، مشيرين إلى أن “الحرب الفيروسية” لن تنتهي حالما تسجل الإحصاءات الطبية انخفاضاً ملحوظاً في عدد حالات العدوى والوفاة بفيروس كورونا بل ستنتهي عندما تصل أسواق الأسهم إلى الحضيض وفي هذه اللحظة سيشتري “أصحاب الأموال” كل الأصول التي فقدت قيمتها وسيبلغون مستوى جديداً من السيطرة على الإقتصاد العالمي، وعندما تنتهي جولة النمو الإقتصادي الجديدة سيدخل الإقتصاد مرحلة انحسار وعندئذ ستخترع السلطات الحاكمة مرة أخرى (فيروساً) ما ومرة أخرى ستتكرر تمثيلية “مكافحة الجائحة” فهذه هي الترسيمة الجديدة لدورة الحياة الإقتصادية.
ويرى عدد من المحللين بان أصحاب الأموال الذين دبروا الجائحة الحالية لن يكونوا في حاجة إلى تطور اقتصادي دوري بلا نهاية بل ان ما يعنيهم هو فرض سلطتهم على العالم فهم يحلمون بإقامة نظام عالمي جديد لا وجود فيه لدول قومية، نظام تترسخ في ظله حكومة عالمية وحينذاك لن يكون لهذا النظام ما يجمعه بالرأسمالية الكلاسيكية بل سيكون من الصواب تسميته بنظام العبودية الجديد أو الاقطاعية الجديدة، لذلك عرت الحرب الفيروسية منذ بدايتها مخططات النخبة العالمية وسلطت الضوء على عملائها وكشفت كثيراً من أسرار نشاطها التخريبي سترغم هذه الجائحة ملايين البشر في العالم على التفكير بما لم يفكروا به سابقاً عندما كانوا يظنون أن مشروع النظام العالمي الجديد مجرد خيال من خيالات أنصار نظرية المؤامرة وحالياً تتجلى النتيجة في استعداد ملايين البشر حول العالم للنضال والكفاح ضد فيروس كورونا المدمر للحياة.